فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَهَؤُلَاءِ اجْتَهَدُوا فِي كِتْمَانِ سَرِقَةِ السَّارِقِ وَرَمْيِ غَيْرِهِ بِالسَّرِقَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} فَكَانُوا خَائِنِينَ لِلصَّاحِبِ وَالرَّسُولِ وَقَدْ اكْتَسَبُوا الْخِيَانَةَ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُجَامِعُونَ بِاللَّيْلِ وَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ عَنْهُمْ حِينَ يَفْعَلُونَهُ وَإِنْ أَظْهَرُوهُ فِيمَا بَعْدُ عِنْدِ التَّوْبَةِ أَمَّا عِنْدَ الْفِعْلِ فَكَانُوا يَحْتَاجُونَ مِنْ سَتْرِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْخَائِنُ وَحْدَهُ أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ يَخُونُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ: {لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} فَإِنَّ السَّارِقَ وَأَقْوَامًا خَانُوا إخْوَانَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَجَامِعُ إنْ كَانَ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ خَانَهَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَالصِّيَامُ مَبْنَاهُ عَلَى الْأَمَانَةِ فَإِنَّ الصَّائِمَ يُمْكِنُهُ الْفِطْرُ وَلَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ فَإِذَا أَفْطَرَ سِرًّا فَقَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ وَالْفِطْرُ بِالْجِمَاعِ الْمَسْتُورِ خِيَانَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ سِرًّا وَإِخْبَارَ الرَّسُولِ وَالْمَظْلُومِ بِبَرَاءَةِ السَّقِيمِ وَسَقِمَ الْبَرِيءِ خِيَانَةٌ فَهَذَا كُلُّهُ خِيَانَةٌ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي خَانَتْ؛ فَإِنَّهَا تُحِبُّ الشَّهْوَةَ وَالْمَالَ وَالرِّئَاسَةَ وَخَانَ وَاخْتَانَ مِثْلُ كَسَبَ وَاكْتَسَبَ فَجَعَلَ الْإِنْسَانَ مُخْتَانًا.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نَفْسَهُ هِيَ الَّتِي تَخْتَانُ كَمَا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَضُرُّ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ مِنْ شَهْوَتِهَا لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ الْعَقْلُ وَالرَّأْيُ وَمَبْدَأُ السَّفَهِ مِنْهَا لِخِفَّتِهَا وَطَيْشِهَا وَالْإِنْسَانُ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ فِي السِّرِّ بِأُمُورِ يَنْهَاهَا عَنْهُ الْعَقْلُ وَالدِّينُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ اخْتَانَتْهُ وَغَلَبَتْهُ وَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي أَمْرِ الْجِمَاعِ وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ النَّاسِ وَيُقْصَدُ بالائتمان مَنْ لَا تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْخِيَانَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَوْ ائْتَمَنْت عَلَى بَيْتِ مَالٍ لَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَلَوْ ائْتَمَنْت عَلَى امْرَأَةٍ سَوْدَاءَ لَخِفْت أَنْ لَا أُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ الْحَرِيصَةِ عَلَى أَخْذِهِ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ النَّفْسَ تَخُونُ أَمَانَتَهَا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ابْتِدَاءً لَا يَقْصِدُ الْخِيَانَةَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْخِيَانَةِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَتَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ وَلِهَذَا يَلُومُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَذُمُّهَا وَيَقُولُ هَذِهِ النَّفْسُ الْفَاعِلَةُ الصَّانِعَةُ؛ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي اخْتَانَتْ.
فصل:
وَدَلَّ قَوْلُهُ: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجِدَالُ عَنْ الْخَائِنِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ خَائِنَةً: لَهَا فِي السِّرِّ أَهْوَاءٌ وَأَفْعَالٌ بَاطِنَةٌ تَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ الْمُجَادَلَةُ عَنْهَا قَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فَإِنَّهُ يَعْتَذِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَعْذَارِ وَيُجَادِلُ عَنْهَا وَهُوَ يُبْصِرُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» فَهُوَ يُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ وَفِيهِ لَدَدٌ: أَيْ مَيْلٌ وَاعْوِجَاجٌ عَنْ الْحَقِّ وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ مُجَادَلَتُهُ وَذَبُّهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ النَّاسِ والثَّانِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ بِحَيْثُ يُقِيمُ أَعْذَارَ نَفْسِهِ وَيَظُنُّهَا مُحِقَّةً وَقَصْدُهَا حَسَنًا وَهِيَ خَائِنَةٌ ظَالِمَةٌ لَهَا أَهْوَاءٌ خَفِيَّةٌ قَدْ كَتَمَتْهَا حَتَّى لَا يَعْرِفَ بِهَا الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى وَيَنْظُرَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ قَالَ أَبُو دَاوُد: هِيَ حَبُّ الرِّيَاسَةِ. وَهَذَا مِنْ شَأْنِ النَّفْسِ حَتَّى إنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُجَادِلُ اللَّهَ بِالْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْحَدُ أَعْمَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وَمِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ الْمُجَادَلَةُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. «وَفِي قِصَّةِ تَبُوكَ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْمُنَافِقُونَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَجَعَلَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ فَلَمَّا جَاءَ كَعْبٌ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَعَدْت بَيْنَ يَدَيْ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ لَقَدَرْت أَنْ أَخْرُجَ مِنْ سَخَطِهِ: إنِّي أُوتِيت جَدَلًا؛ وَلَكِنْ أَخَافُ إنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشَكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيَّ؛ وَلَئِنْ حَدَّثْتُك حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاَللَّهِ مَا كُنْت أَقْوَى قَطُّ وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْت عَنْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ يَعْنِي وَالْبَاقِي يُكَذَّبُونَ ثُمَّ إنَّهُ هَجَرَهُ مُدَّةً ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ صِدْقِهِ». فَالِاعْتِذَارُ عَنْ النَّفْسِ بِالْبَاطِلِ وَالْجِدَالُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ؛ بَلْ إنْ أَذْنَبَ سِرًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ بِذَنْبِهِ وَخَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَسَأَلَهُ مَغْفِرَتَهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَوَّابٌ وَإِنْ كَانَتْ السَّيِّئَةُ ظَاهِرَةً تَابَ ظَاهِرًا وَإِنْ أَظْهَرَ جَمِيلًا وَأَبْطَنَ قَبِيحًا تَابَ فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَنْ أَسَاءَ سِرًّا أَحْسَنَ سِرًّا وَمَنْ أَسَاءَ عَلَانِيَةً أَحْسَنَ عَلَانِيَةً {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}
وسبحانه يريد أن يشبع هذه القضية بحثًا، فقد كان يكفي أن يقول لنا ما سبق. لكنه يريد أن يحسم مثل هذه الأمور؛ فلا مجادلة في الذين يختانون أنفسهم. والجدل كما نعرف هو الفتل. وحين يفتل الإنسان شيئًا، مثل أن يحضر بعضًا من الشعر أو الصوف أو الليف ويجدلها ليصنع حبلًا، فهو يفتل هذا الغزل ليقويه ويجعله غير هش وقابلًا للشد والجذب، ولذلك يقال عن مثل هذه العملية: إننا نجدل الحبل حتى نعطيه القوة. وكذلك شأن الخصمين؛ كل واحد منهما يريد تقوية حجته، فيحاول جاهدًا أن يقويها بما يشاء من أساليب ليّ القول ولحنه أو الفصاحة في الأسلوب. لذلك يأتي الأمر إلى الرسول: لا تقو مركز أي إنسان يختان نفسه.
والقرآن حين يعدل عن يخونون أنفسهم إلى {يختانون أنفسهم}، فلابد أن لهذا معنى كبيرًا؛ لأن الخيانة هي أن تأخذ غير الحق. ومن المحتمل أن يخون الإنسان غيره، لكن أَمِنَ المعقول أن يخون الإنسان نفسه؟ إن مثل هذه العملية تحتاج إلى افتعال كبير، فقد يخون الإنسان نفسه غيره من أجل مصلحة نفسه، أو ليعطي نفسه شهوة ومعصية عليها عقوبة، وهذه خيانة للنفس؛ لأن الإنسان في مثل هذه الحالة يغفل عن العقوبة الآجلة بالشهوة العابرة العاجلة.
وهكذا نرى أن الذي يخون الناس إنما يخون- ضمنًا- مصلحة نفسه. وإذا ما خان الإنسان نفسه فهذا ليس سهلًا ويتطلب افتعالًا، ولذلك يقول الحق: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}.
والآية التي تحدثت من قبل ذلك عن هذا الموقف لم تأت بكلمة «خوانين» ولكن جاءت بالخائنين، وهنا يأتي الحق بكلمة خوَّان. وفيه فرق بين «خائن»، و«خوَّان»، فالخائن تصدر منه الخيانة مرة واحدة، أما الخوَّان فتصدر منه الخيانة مرارًا. أو يكون المعنى هو: أن الخائن تصدر منه الخيانة في أمر يسير صغير، أما الخوّان فتصدر منه الخيانة في أمر كبير. إذن. فمرة تأتي المبالغة في تكرير الفعل، وأخرى في تضخيم الفعل.
ومن لطف الله أنه لم يقل «خائن»؛ لأن الخائن هو من خان لمرة عابرة وانتهى الأمر، ولم يخرجه الله عن دائرة الستر إلاَّ إذا أخذ الخيانة طبعًا وعادة وحرفة. وقد جاءت لسيدنا عمر رضي الله عنه امرأة أخذ ولدها بسرقة، وأراد عمر رضي الله عنه أن يقيم على ذلك الولد الحد، فبكت الأم قائلة: يا أمير المؤمنين والله ما فعل هذا إلا هذه المرة. قال عمر: كذبت. والله ما كان الله ليأخذ عبدًا بأول مرة.
ولذلك يقولون: إذا عرفت في رجل سيئة انكشفت وصارت واضحة. فلتعلم أن لها أخوات؛ فالله لا يمكن أن يفضح أول سيئة؛ لأنه سبحانه يحب أن يستر عباده، لذلك يستر العبد مرة وثانية، ثم يستمر العبد في السيئة فيفضحها الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا}، والإثم أفظع المعاصي. والقوم الذين ذهبوا إلى رسول الله صلى الله علسه وسلم ليستشفعوا عنده لابن أبيرق لكي يحكم له الرسول ضد اليهودي، لماذا صنعوا ذلك؟. لأنهم استفظعوا أن يفضح أمر مسلم ويبرأ يهودي، استحيوا أن يحدث هذا، وعالج القرآن هذه القضية وذلك ليأتي بالحيثية التي دعتهم إلى أن يفعلوا هذا ويقضي على مثل هذا الفعل من أساسه، فقال: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ..} اهـ.

.تفسير الآية رقم (108):

قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
قال البقاعي:
{يستخفون} أي هؤلاء الخونة: طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره {من الناس} حياء منهم وخوفًا من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفًا مع الوهم كالبهائم {ولا يستخفون} أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة {من الله} أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال {وهو} أي والحال أنه {معهم} لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، ولا يعجزه شيء من نكالهم، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال! {إذ} أي حين {يبيتون} أي يرتبون ليلًا على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي {ما لا يرضى من القول} أي من البهت والحلف عليه، فلا يستحيون منه ولا يخافون، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب.
ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال: {وكان الله} أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له {بما يعملون} أي من هذا وغيره {محيطًا} أي علمًا وقدرة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار، يقال استخفيت من فلان، أي تواريت منه واستترت.
قال تعالى: {وَمَنْ هُوَ مُستَخِف بِالليلِ} [الرعد: 10] أي مستتر، فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله.
قال ابن عباس: يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله.
قال الواحدي: هذا معنى وليس بتفسير، وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم، فأما أن يقال: الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك، وقوله: {وَهُوَ مَعَهُمْ} يريد بالعلم والقدرة والرؤية، وكفى هذا زاجرًا للإنسان عن المعاصي، وقوله: {إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله: {بيت طائفة منهم} [النساء: 81] والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها، فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي.
فإن قيل: كيف سمي التبييت قولًا وهو معنى في النفس؟
قلنا: مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس، وعلى هذا المذهب فلا إشكال، ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر، فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه، فأما قوله: {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله، لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء. اهـ.